الرابعة نيوز_غزة- «القدس العربي»: في ركنٍ بعيد من أحد مخيمات النزوح القريب من دير البلح، تجلس الطفلة تسنيم العزب، ذات الأحد عشر عامًا، تنظر إلى السماء وكأنها تفتش فيها عن ملامح وجه اختفى. فقدت والدها في إحدى الغارات التي شنتها قوات الاحتلال خلال حرب الإبادة على غزة في عام 2023، وكانت يومها في التاسعة من عمرها. لم تشبع من حضنه، ولم ترتو، من صوته، فبقيت ذكراه معلقة بين الصور والخيال.
طفولة منفية
تقول والدتها، سمر أبو العلا لـ»القدس العربي»: «حين استشهد والد تسنيم، كانت قد بدأت تتعلق به بكل جوارحها. كانت تنام إلى جانبه وتلاحقه بخطواتها الصغيرة. وبعد رحيله، أصبحت تسألني كل يوم: متى يعود أبي؟».
تحتفظ تسنيم بتسجيل صوتي له أرسله قبيل استشهاده، تسمعه كل مساء كأنه وسادة تطمئن بها. في الأعياد، كانت تتشبث بقميص وردي اشتراه لها قبل أيام من موته، وتقول: «هذا من أبي، لن أخلعه أبدًا».
نزحت تسنيم 9 مرات، وفي كل مرة كانت تجرها أمها من خيمة إلى مركز إيواء بحثًا عن مأوى لا تصله القنابل. توضح الأم سمر: «في كل مرة نزوح سيرًا على الأقدام، كنت أشعر أنها ستسقط من يدي وأنا أركض بها». وتتمنى مع كل خطوة هرب أن يعود الزمن إلى الخلف، عندما كان الزوج حيًا يشاركها مسؤولية حماية وتأمين طفلتهما.
تضيف الأم: «في كل مرة نسمع فيها قصفًا جديدًا، تمسك فريدة بيدي وتقول: هل مات أحد مثل أبي؟». قبل أن تختم: «ابنتي أصبحت تتحدث عن الموت كأنه شيء معتاد، كأنها سلّمت أن الحياة لم تخلق لها طمأنينة منذ البداية».
صرخة ممتدة
لم يكن يُتم أطفال غزة مجرد عنوان صحافي، بل زلزال نفسي يومي يُربك التوازن الهش لأرواحٍ صغيرة خُطفت منها الحياة في عمر الحليب. منذ اندلاع الحرب في تشرين الأول / أكتوبر 2023، تحوّلت الطفولة في القطاع إلى عبء يتيه بين ركام البيوت وذاكرة الفقد. آلاف الأطفال أصبحوا بلا آباء ولا أمهات، وبلا سندٍ أو حضنٍ يُرمم هشاشتهم.
تسير في أحد أحياء خان يونس المدمرة فترى طفلاً يحمل صورة ممزقة، وآخر يفتش في التراب عن لعبة لم تعد موجودة، وثالث يسأل متطوعًا: «ما اسمك؟ هل يمكنك أن تصبح والدي؟». بعضهم يرفض الاقتناع أن والديه قد ماتا، ويؤمن أن الزمن سيتراجع ليعيدهما.
المجتمع الذي طالما شكّلت فيه الأسرة الممتدة سياج الأمان، بدأ يتفكك أمام سيل النزوح والدمار. الأقارب لم يعودوا قادرين على احتضان من تبقى من الأطفال، بعضهم بالكاد يجد قوت يومه، وآخرون يسكنون خيامًا تئن من البرد والذل.
اليتيمة الباكية
قرب خيمةٍ مهترئة في منطقة المواصي، كانت الطفلة هالة عوض، في الثامنة من عمرها، تحتمي ببطانية مهترئة تفوق حجم جسدها بأضعاف. فقدت والدها في قصف استهدف سيارته حين خرج يبحث عن الخبز، ثم لحقت به والدتها بعد أسبوع حين دُمّر المنزل الذي احتموا به. وحدها، نجت هالة بعدما أنقذها أحد الجيران من تحت الأنقاض.
تقول لـ»القدس العربي»: «لا أتذكر وجه أمي إلا من صورة على هاتف أحد المتطوعين، ولا صوت أبي إلا من تسجيل أرسله لي قبل موته بدقائق. في كل ليلة أطلب من السيدة أن تشغله لي كي أنام على صوته: (أحبك يا ابنتي)».
تحكي كيف تحوّل العيد إلى صمت، والمراجيح إلى أطلال، والضحكة إلى غصة: «كنت أتمنى أن أرتدي الفستان الذي وعدتني به أمي.. لكنها ذهبت ولم تعد».
يتكفل بها عمها، رجل خمسيني فقد أبناءه وزوجته، ويعيش الآن في خيمة تضم عشرة أشخاص. يوضح لـ»القدس العربي»: «هالة نسيت كيف تضحك، حتى الدمية التي كانت تحبها أصبحت تخشاها. كأنها فقدت إحساسها بكونها طفلة».».
الفتى الحالم
آدم أبو شعبان، طفل في الثانية عشرة من عمره، يعيش اليوم في خيمة قرب شاطئ بحر غزة، بعدما فقد أمه وأخته الكبرى في قصفٍ على حي الرمال. والده، المصاب بشلل نصفي، لا يستطيع الاعتناء به. صار آدم يجر كرسي والده في الطرقات الموحلة بحثًا عن طعام أو دواء.
يقول آدم لـ«القدس العربي»: «أتمنى أن نعود إلى منزلنا، وأتمنى أن تعود أمي». كان يحب لعب الكرة، لكنه لم يلمسها منذ الحرب. ذات مرة قال أحد الجيران: «آدم أصبح كالمسنين، نسي كيف يضحك».
يعاني آدم من نوبات هلع، لا ينام إلا مرتعبًا. تقول هناء عبد الهادي معلمته المتطوعة في مدرسة المخيم خلال حديثها لـ«القدس العربي»: «لو كان زيد في مكان آخر من العالم، لكان في بيت آمن، ومدرسة حقيقية، وتحت رعاية طبية. أما هنا، فهو مجرد رقم في قوائم الناجين».
حين سألنا آدم عن حلمه، أجاب: «أريد أن أصبح طبيبًا كي أعالج والدتي». جملة هزت قلب معلمته، وكسا وجهها تعابير حزينة.
أرقام دامية
تشير تقديرات وزارة التنمية الاجتماعية في غزة إلى أن حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة خلفت أكثر من 39,800 طفل فقدوا أحد الوالدين أو كليهما حتى تموز / يوليو 2025. ويعيش حوالي 9,400 طفل منهم دون معيل مباشر، في مراكز إيواء متداعية أو لدى أقارب لا يستطيعون إعالتهم.
وتوضح وزيرة التنمية الاجتماعية، عزيزة الكحلوت، في تصريح لـ«القدس العربي»: «غالبًا، يُنتشل الأطفال من تحت الركام ولا يجدون من يعرف أسماءهم، أو يطالب بهم. الجانب النفسي هو الأخطر، إذ تُسجل سلوكيات اضطرابية مثل العزلة، فقدان الشهية، التبول اللاإرادي، وحتى ميول انتحارية».
وتقول منظمة «أنقذوا الطفولة» في تقرير صدر عنها أخيرًا: «نحن أمام مأساة لا نظير لها، إذ نرصد آلاف الأطفال الأيتام الذين باتوا أشباحًا لأجساد حقيقية، فقدوا دفء العائلة، واحتضان المدرسة، وحماية الدولة، ولم يبق لهم سوى النجاة العارية من أي معنى».
ويؤكد عاملون في الميدان أن نقص الغذاء فاقم من مآسيهم، حيث انتشرت حالات هزال خطير بين الأطفال اليتامى، وبات كثيرون منهم مهددين بالموت جوعًا ما لم تصل المساعدات بشكل عاجل ومنتظم.
صورة مظلمة
في هذا الصدد، يقول أمجد الشوا، مدير شبكة المنظمات الأهلية الفلسطينية، إن الأيتام في غزة يعيشون ظروفًا إنسانية بالغة القسوة، إذ يفتقدون كل مقومات الحياة الكريمة. وأوضح أن الآلاف من الأطفال الذين فقدوا أسرهم يواجهون مجاعات متفاقمة، وتشردًا مستمرًا، وانهيارًا تامًا في أبسط أشكال الدعم والرعاية.
ويضيف الشوا، لـ«القدس العربي»: «نشهد تشكّل جيل بأكمله في قلب المأساة، جيل لا يعرف الضحكة الآمنة، ولا معنى الدفء العائلي. هم أبناء الحرب، كبروا وسط الركام، ولا يحملون من الطفولة سوى الاسم».
ويشير إلى أن المؤشرات النفسية للأطفال الأيتام تثير القلق، فهناك تصاعد في السلوكيات العنيفة، والعزلة، والانهيارات العصبية، دون أي بنية حاضنة تُعيد لهم توازنهم النفسي أو الاجتماعي.
ويتابع قائلاً إن المراكز التي كانت تُعنى برعاية الأيتام بالكاد تعمل، وتفتقر للحد الأدنى من الإمكانات، ومع ذلك تستقبل يوميًا عشرات الحالات الجديدة لأطفال فقدوا عائلاتهم بالكامل. ويختم: «المسؤولية لم تعد محلية فقط، بل باتت مسؤولية دولية أخلاقية تجاه جيل مهدد بالضياع التام».
جوع متفاقم
أما نضال جرادة، المدير التنفيذي لـ»معهد الأمل للأيتام»، فيصف ما يحدث أنه مجاعة مكشوفة تُنهك أرواح الصغار قبل أجسادهم. يقول: «نستقبل كل يوم أطفالًا جددًا يبحثون عن وجبة، لا عن مستقبل. يقفون في طوابير طويلة فقط للحصول على قطعة خبز أو زجاجة ماء، وغالبًا يعودون بلا شيء».
ويضيف لـ«القدس العربي» أن مئات الأطفال ينامون على بطون خاوية، ويصحو بعضهم على بكاء الجوع. ويتابع: «لا طعام، لا حليب، لا حتى ما يسد الرمق. نحن نرى الهزال ينهشهم بأعيننا، ولا نملك إلا الانتظار».
ويوضح أن المؤسسات التي كانت توفر الرعاية الغذائية والنفسية تتآكل تحت ضغط العجز والدمار، والمساعدات لا تصل وسط الحصار، والموجود منها لا يغطي سوى جزء بسيط من الحاجة المتزايدة.
وختم جرادة بقوله: «في غزة، لم يعد يُعرف اليتيم فقط بمن فقد والديه، بل صار كل طفل فقد منزله ومدرسته وضحكته يُعد يتيمًا من نوع آخر، يتيمًا في ظل العالم بأسره».