الرابعة نيوز_غزة _ سعدية عبيد : في قلب حي الدرج بالبلدة القديمة في مدينة غزة، يقف قصر الباشا—أحد أقدم وأهم المعالم الأثرية في فلسطين—شاهداً على سبعة قرون من التاريخ، وعلى موجات متلاحقة من الغزو والحروب، كان آخرها القصف الإسرائيلي الذي طال القصر في ديسمبر/كانون الأول 2023، مخلِّفاً دماراً كبيراً طمس ملامح مبناه العريق.
ورغم الخراب الذي حلّ به، بدأ فلسطينيون خلال الأسابيع الأخيرة إعادة تأهيل القصر، وسط ظروف شديدة الصعوبة ونقص حاد في المواد والمعدات، في محاولة لإنقاذ ما تبقى من ذاكرة غزة المعمارية وتراثها الوطني.
قصر صمد منذ المماليك حتى اليوم
شُيّد القصر عام 1260م في عهد السلطان المملوكي الظاهر بيبرس، وبناه والي غزة الأمير جمال الدين آقوش الشقيقي. ويبرز على مدخله نقش الأسدين المتقابلين، شعار بيبرس المعروف، الذي ظل شاهداً على هويته المملوكية عبر العصور.
وخلال الحقبة العثمانية، أصبح القصر مقراً لحكم آل رضوان الذين تولوا إدارة سنجق غزة وبلاد الشام لأكثر من 150 عاماً، قبل أن يمرّ لاحقاً بتحولات عديدة، من مقر للشرطة في عهد الانتداب البريطاني إلى مدرسة خلال الإدارة المصرية، ثم متحفاً للآثار منذ عام 2010.
عمارة تجمع المملوكي والعثماني
يتكون القصر من مبنيين:
* السلاملك: الذي تحول لاحقاً إلى متحف.
* الحرملك: الذي يُستخدم اليوم للإدارة.
ويعكس البناء مزيجاً فريداً من الطرازين المملوكي والعثماني؛ إذ استخدم المماليك الحجارة الرملية في الطابق الأرضي، بينما اعتمد العثمانيون على الحجارة الجيرية والصخرية في البناء العلوي.
وتزدان الواجهات الزخارف الهندسية والنباتية، وتحتفظ بعض الغرف بأرضياتها الرخامية الأصلية.
متحف احتضن آلاف القطع الأثرية
قبل تدميره، كان القصر يضم 5 غرف عرضت قطعاً أثرية من العصور الرومانية والبيزنطية والإسلامية، إضافة إلى مقتنيات نادرة. لكن معظم هذه القطع اختفت خلال الحرب، وفق ما يؤكده مختصون بالتراث.
دمار كبير خلال الحرب
تعرّض القصر سابقاً لأضرار في الحرب العالمية الأولى واعتداءات خلال الاحتلال الإسرائيلي، إلا أنّ الضربة الأقسى كانت خلال العدوان على غزة عامي 2023 _2025، حين قصفت الطائرات الإسرائيلية المبنى، ما أدى إلى تدمير أكثر من 70% من مساحته وتحول أجزاء واسعة منه إلى ركام.
إعادة الإحياء رغم انعدام الموارد
"داخل ساحة القصر، يعمل العمّال الفلسطينيون بوسائل بدائية لا تتجاوز الأوعية البلاستيكية وأيديهم الخالية من أي معدات مناسبة، محاولين فرز الحجارة الصالحة لإعادة الاستخدام عن الركام التالف، وتأمين ما تبقّى من أجزاء المبنى التاريخي. ويقول القائمون على الترميم إن المشكلة الأبرز تتمثل في إدخال المواد إلى غزة، إذ إن مواد البناء شبه معدومة، ما يضطرهم للاعتماد على ما يستخرجونه من بين الأنقاض مع تدخل محدود جداً لتدعيم الموقع. ولم يكن بالإمكان استئناف العمل قبل دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، فقبل ذلك كان العمال مهدّدين بالطائرات المسيّرة التي كانت تحلّق على ارتفاع منخفض، تراقب المكان وتطلق النار، ما جعل أي محاولة للترميم مخاطرة يومية بحياتهم."
غزة ترمم ذاكرتها
رغم كل شيء، يتمسك الغزيون بإعادة الحياة إلى قصر الباشا.
فالأمر يتجاوز ترميم مبنى تاريخي؛ إنه ترميم للذاكرة الفلسطينية التي يحاول كثيرون محوها.
وفي كل حجر يعاد إلى مكانه، يثبت الفلسطينيون أن تاريخهم لن يُدفن تحت الركام، وأن غزة—رغم جراحها—ما تزال قادرة على حماية ما تبقى من حضارتها.